جمعني منذ قليل و انا في طريق العودة الى بيتي الكائن على بحر اللوزة و المطلة شرفته على المنطقة الأثريّة اكولا الواقفة امام عسف الدولة بفسيفسائيّتها ، بمنازل القناصلة ، بحمامتها ،بمسارحها ، بتاريخها الروماني التليّد ، الأستاذ محمود درويش و الذي وجدته يقتني تبغا لغليونه الذي يظهر انّه مبتهج بتحوله من السيجارة الى الغليون ... صحت له يا رجل .. لا شيء يعجبني ! فأبتسم و هو يحاول ان يتمعن فيّ عامدا تقريب بلور نظارته الى عينيه ، آه هو انت ! كيف حالك يا رجل !اذن قلت لي لا شيء يعجبك ، اجبته بنبرة من الحدة نعم يا شاعر السماء و الحبّ لاشيء يعجبني ... لقَدْ رحلتَ و تركتَ عالما مجنوناَ من حولناَ ! قلت هذا ليس حديثا وقُفا امتطي معي حصاني الذي لن اتركه وحيدا يا درويش و سنتحدث في بيتي ...
كان درويش يقلب اسطوانات فيروز تارة ، لعبير نصراوي و سعاد ماسي تارة اخرى ، احيانا يتحول الى اسطوانات الشاب طه ، و لارا فابيان ، واديث بياف ، و لكنّه توقف فجأة عند اسطوانة الموسيقار العظيم "ياني" و توجّه اليّ قائلا : يا رجل اين وجدت هذه الاسطوانة ! لم اجدها في السماء وهاهي لكَ الآن ، اجبته مازحا أهددني إياها التي انتظرتها طويلا ، وضعها في المسجّل و واصل مسيرته يتأملّ جدراني الفوضيّة ، العبقة بالفنّ و برائحة العنبر و الدخّان ، عيناه مشدوهتان الى تلك الحيوط ، لخصت تاريخ وسيطا و حديثا و معاصرا ، و فلسفات التناقض في التكامل من بينها ، توقف امام صورة نيتشه و ابتسم موجها اليه خطابه الرقيق : كم احبّك ايّها الالمانيّ المجنون ، لوْ لمْ تكنْ فيلسوفي لمَا كنتُ ضمير القضيّة و الإنسان ، انحنى امامه و لم ينس ان يودعّه : نيتشه ، حبيبتك سالومين التيّ قبلت الارض تحت قدمها هي الآن منبوذة في العليّ ... و انت الخالدُ يا ابا شنب ! .. اشعل غليونه و استنشق دخانه بحلاوة المرارة ، شاهد اعلاما للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، صورا لليلى خالد ، لجورج حبش ، لكتائب ابو علي مصطفى –النسر الأحمر- ، لوحة مشهورة لغسانّ كنفاني و هو يدخّن و يكتب بالدم لفلسطين في مكتبه بمجلة "الهدف" ...التفت الى صورة لينين و القى له تحيّة الغوار ابدا و توجه له بقليل من اليأس : كم نحن اليكَ باحتياج يا اب الثورة ، المارون على الكلمات العابرة ، لم يأخذوا حصتهم من دمنا و يرحلوا ... على عادة الشعراء ، فقد نزع قبعته ، و مدّ قلمه من جيبه ، وحيّى الكاتبة الكبيرة غادة السماّن و وضع امامها قلمه ، أحبّكَ يا حبيبة غسّان كنفاني ، أحبّك ايتها العاشقة من الوريد الى الوريد ... كنت اتشوق الى محادثته ، الى اخباره ، الى بحره ، الى ثراه و نضاله ، الى كتابته و رقصه ، الى انثاه التي كانت له مركزا و موطن لهُ ايضا ، اشتاقه لفلسطين ، ... درويش على عكسِهِ اليومِ حدثنّي عن انّي وريثه الشرعي ، ليسَ في شخصي بل في طاقة شبابيّة هائلة كامنة تحت بركانناَ ، دعاني الى بوصلة التمرد ، و الحبّ ابدا ...
في هذه الاثناء ، قاطعتنا حبيبتي و هي تقدمّ لنا كوبين من القهوة الساخنة و تفاجأت ايما تفاجئ عندما شاهدت درويش ، ترقرق الدمع شوقا له على خدّهيها البيضاوين ، ناظرة نحوه و هي لزالت على بقيّتها مندهشة من حضوره ، قلت لمحمود درويش : اسمع يا سيّد لا تتغزّل بحبيبتي ، اتفقنا ! ابتسم و التفت نحوها شاعرا : "القهوة تأملّ و تغلغل في النفس و الذكريات " ... قدمتّ له القهوة ثم عانقته و هي بلباس نوع ما شفاف ، و تغلب عليها الاثارة هذا المساء ، فككتُهاَ منهُ فقال ضاحكا : هلْ تغار عليها منّي يا رجل ! فتوجّه اليها شاعرا من جديدا " و إنّي أحبّك حتّى التعب " اردفها بقهقهة ساخرة ... قُلْتٌ له : "تبّا لك يا عاشق النساء ، الله لم يستطع ان يخطفها منّي ، فقدْ خلقتْ جيهانُ واحدة في هذا العالمِ و هي لِي ن فلاَ تحاولْ !.. قال اسمع يا بنّي ، انا كتبتٌ لاجلكمِ انتمْ العاشقونُ ، لا أذكرُ ان عقلِي يومَا ما كتبَ ، لأن ّ شعري رسِمَ بأهازيج القلب ، من شرايني سطرت الريمّ ، فأنا من اولئكَ ممن يموتون حين يحبوّن ... فلا تتركَ حبيبتكَ حتّى لا يكون ليلكَ كئيباَ حين تفقد فيه شيئا تعودتّ عليه